فلسطين: هكذا حوّلنا الدعم الدولي الجارف إلى عزلة مطبقة

موقع واللا- نير كيفنس: نتنياهو مُحق: الاعتراف بدولة فلسطينية هو بالفعل “جائزة لحماس”، إلا أن الحكومة برئاسته هي التي شكّلت لجنة الجوائز، وهي من أوصلت إسرائيل إلى وضع أسوأ من وضع منظمة حماس نفسها.
ديسمبر 1987 – كنتُ جنديًا في دورة قادة فرق. قال أحدهم إنهم سيُخرجوننا على وجه السرعة بسبب حادث سير في غزة أعقبه اندلاع اضطرابات. فرحنا: كرهنا تلك الدورة التي أعادت جنودًا قدامى مثلنا إلى انضباط أشبه بالتدريب الأساسي. أي شيء سيكون أفضل، فكّرنا.
فيما بعد اتضح أن التاريخ استدعانا إلى جباليا في ما عُرف لاحقًا باليوم الأول للانتفاضة الأولى.
كثير من الاستنتاجات ما زالت عالقة في ذهني من تلك الأيام، لكن للغرض الذي اجتمعنا من أجله سأروي القصة التالية:
خلال عمليات بحث عن وسائل قتالية وعبوات (وكانت قليلة جدًا في ذلك الوقت، مقارنةً بحرب غزة اليوم، بدت تلك الأيام كحرب بالعصي والحجارة) وصلنا إلى مراكز حركة دينية شابة اسمها “حماس”. فقال لنا ضابط كبير: “اتركوا هؤلاء، إنهم بمثابة شاس الفلسطينيين (هكذا قال حرفيًا)، من الأفضل أن يدرسوا القرآن بدل أن يرموا الحجارة مثل منظمة التحرير”.
نُذكّر أن السنة كانت 1987: يتسحاق شامير كان رئيس الحكومة، يتسحاق رابين وزير الدفاع. الخطأ الإسرائيلي بشأن حماس لم يبدأ مع بنيامين نتنياهو. لكن نتنياهو كان الأول الذي أخطأ حين استخدم حماس لأهداف داخلية، غذّاها ليعرقل أي مسار سياسي.
كلمة أخيرة عن الثنائي الأخير: رابين تدارك لاحقًا – نظريًا – وفهم أنه كي يتقدم سياسيًا لا بد من التحدث مع منظمة التحرير. حماس التي أهملها عمداً قبل سنوات قليلة، كادت أن تنسف له ما اعتقد أنه حققه في اتفاقيات أوسلو.
البيت في شارع بلفور
مع ذلك، من وجّه الضربة القاضية للمسار كان الشريك “المعتدل” له في الاتفاقيات، ياسر عرفات. كان ذلك فور عودته من كامب ديفيد، حيث قدّم له إيهود باراك وبيل كلينتون العرض الأكثر سخاءً الذي يمكن أن يخطر ببال أي رئيس حكومة إسرائيلي، مقابل كلمتين: “نهاية الصراع”.
عرفات – الذي حوّلته إسرائيل من “إرهابي” إلى دبلوماسي مقبول في معظم دول العالم وحائز جائزة نوبل للسلام – عاد إلى رام الله، وفكّر، ثم استغل صعود أريئيل شارون إلى الحرم القدسي ليُعلن حربًا على إسرائيل، عُرفت لاحقًا بـ”الانتفاضة الثانية”.
تلك كانت الخطوة التي قضت عمليًا، ليس فقط على عملية السلام، بل أيضًا على اليسار الإسرائيلي، الذي استوعب أنه لا وجود لفلسطينيين معتدلين. فالتقسيم هو بين من يعلنون صراحةً أنهم يريدون إبادة جميع الصهاينة، مثل حماس، وبين من يقبلون بحل الدولتين كمرحلة انتقالية قبل منح لاجئ 1948 “حق العودة” الشهير – الذي يُعد شهادة وفاة لدولة إسرائيل كوطن قومي للشعب اليهودي (كما ورد في تصريح بلفور عام 1917). وداخل هذه الحدود ينبغي لحكومات إسرائيل أن تُبحر، وأن تُدير الصراع كي لا يُديرنا هو.
وليس من قبيل الصدفة أن الفقرة السابقة انتهت بإعلان بلفور. فإذا كان هذا التصريح لوزير الخارجية البريطاني إنجازًا عظيمًا لحاييم وايزمن – الذي أصبح لاحقًا أول رئيس لدولة إسرائيل – فإن مجرد التفكير في كيفية تعامل “فلسطين” يومًا ما مع تصريح رئيس وزراء بريطانيا هذا الأسبوع، يكفي.
لجنة الجوائز
نعود لحماس. نتنياهو تأسف على قرار دول مثل فرنسا وبريطانيا الاعتراف بدولة فلسطينية وقال إنه “جائزة لحماس”. وهو محق، لكن إن كانت جائزة، فإن حكومة إسرائيل برئاسته هي لجنة الجوائز.
فهي التي حوّلت منظمة إرهابية قاتلة – التي كان قادة العالم بأسره (ومن بينهم كثير من الدول التي تعترف اليوم بفلسطين، وهو مفهوم يصعب على الأذن الإسرائيلية تقبله) – يصطفون لإدانتها بعد مجزرة 7 أكتوبر، إلى جهة لها سهم مؤسس في تحويل شعب لم يكن موجودًا إلا كمرآة للفعل الصهيوني، إلى كيان سياسي.
تصوّروا شعور فلسطيني لم يشارك يومًا في الإرهاب، وكان مترددًا بين “يسار” و”يمين” – كما عندنا: رجال السلطة تحولوا إلى “شاويشية” لإسرائيل، تعاونوا معها في إحباط العمليات – وكادوا أن يُمحوا سياسيًا. فجاءت حماس، وفي عملية مجنونة وانتحارية، دفعت نحو قيام دولة فلسطينية (ولو ليس فعليًا، فعلى الأقل على المستوى التصريحي، كأنه 29 تشرين الثاني فلسطيني).
إن كانت هناك نقاشات عندنا حول مدى تأييد الفلسطينيين لحماس، فقد جاء نتنياهو وأعطى للنضال الدموي والهمجي هذا “سهمًا ذهبيًا” في سجلات الشعب الفلسطيني. شيء لا يُصدق.
ربما يجب التذكير أيضًا بالنفاق الأوروبي. فبعض الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية لم تعترف بحماس كمنظمة إرهابية رغم فظائع 7 أكتوبر. وفي الـBBC، التي كانت يومًا مدرسة للصحافة الحرة، أقالوا محللًا فقط لأنه وصف حماس بـ”منظمة إرهابية”. عالم مقلوب لا علاقة له بالأخلاق.
لكن لا شيء من هذا يعفي حكومة إسرائيل من المسؤولية عن العزلة الدبلوماسية غير المسبوقة، وعن عالم اتحد في قراراته ضدها. لماذا؟ لأنه في 8 أكتوبر كان لدى إسرائيل رصيد غير محدود للتحرك ضد غزة. باستثناء بعض الأيرلنديين أو الباسكيين الحمقى، قال العالم لإسرائيل شيئًا مثل: “افعلوا ما شئتم في غزة”.
حكومة إسرائيل هي من قررت التعامل مع هذا الرصيد كقرض يُسدَّد على 24 قسطًا (وما زال)، بدل أن تتعامل معه كـ”قرض بالون”، أي شيئًا ينبغي استغلاله بالكامل فورًا وتسديده دفعة واحدة.
أمريكا الممسوكة؟
الآن، بعد عامين، وبعد أن نسي العالم كله أطفال بئيري، ناحال عوز وكفار عزة – وانتقل لاستهلاك صور جثث الأطفال من الجانب الآخر – تذكّروا أن يُسقطوا أبراج غزة؟ أين كان الجيش وسلاح الجو في 8 أكتوبر (أما السؤال أين كانوا في 7 أكتوبر فسوف يُبحث في لجنة تحقيق رسمية، ربما)؟
أين كان نتنياهو؟ أين كانت الحكومة التي قررت، بتأخير غبي لأكثر من عام ونصف، احتلال غزة حين أصبح ذلك مستحيلًا دوليًا؟
ماذا يمكن لنتنياهو أن يفعل ردًا على الاعتراف بدولة فلسطينية؟ بكلمتين: “لا شيء”. وبأكثر قليلًا: سيقدّر أولًا، في لقائه مع رئيس الولايات المتحدة، مقدار الحبل الذي سيُطلق له. وعلى الإسرائيليين أن يصلّوا أن يكون قصيرًا قدر الإمكان. دون ضم، لأن الضم يعني نهاية إسرائيل كدولة يهودية-ديمقراطية وبداية إسرائيل يهودية-أبارتهايد.
إذا خطر لأحد القرّاء من محبي التاريخ القريب أو البعيد مصطلح “عُكّاز قصب مكسور” (الذي في سياقه الأصلي قاد لفقدان استقلال إسرائيل القديمة)، فليس ذلك مصادفة. فإسرائيل تعتمد ليس فقط على رئيس متقلب، مزاجي، نرجسي، وعلى الأرجح غير سليم نفسيًا. حتى لو استمر في الالتصاق بنا رغم كل عيوبه وعيوبنا، فلن يدوم ذلك للأبد.
عاجلًا أم آجلًا سيُنتخب في الولايات المتحدة رئيس (أو رئيسة) ديمقراطي. أي من لا يبتعدون كثيرًا في نظرتهم للعالم عن قادة أوروبا الذين يدعمون الآن ككتلة واحدة إقامة دولة فلسطينية. فما مصيرنا حينها؟
خياران سيواجهان إسرائيل في ذلك اليوم: إما الخضوع لإملاءات العالم – وهو أسوأ بكثير من أي اتفاق سياسي كان يمكن أن تبرمه إسرائيل بنفسها (وربما ما زالت تستطيع). أو أن تتحول إلى ما يشبه كوريا الشمالية: دولة منبوذة وفقيرة، لا تعيش إلا بفضل سلاحها النووي (بحسب تقارير أجنبية). والقاسم المشترك بين هاتين “الدولتين الإسرائيليتين”: لا أحد منكم سيرغب بالعيش فيهما.
في أحد خطاباته التوبيخية الأنجح، تنبأ زعيم المعارضة، يائير لابيد، بأنه سيأتي يوم لا تُسمى فيه ساحة أو شارع أو حتى مكتبة عامة باسم بنيامين نتنياهو. لا نعرف إن كان لابيد أصاب – كما أصاب حين حذر بشكل صريح من هجوم واسع على إسرائيل عشية 7 أكتوبر.
لكن هناك شيء مؤكد: في دولة فلسطين، إذا ما قامت رغم أنف إسرائيل، ربما يُكرمون نتنياهو تاريخيًا ويُسمّون بعض الميادين العامة باسمه: “أبو الدولة الفلسطينية”