ما وراء الخبر: الصحفيون/ات في فلسطين وصراعهم مع التحديات النفسية
هبة عطاطرة وصفاء برغوثي
أثار عنوان ملتقى أريج السابع عشر “صحافة بلا قيود” فضولنا للكتابة عن التحديات النفسية التي تواجهها الأطقم الصحافية في فلسطين. فعندما أحاول الكتابة عن الصحفية يارا عيد التي عاشت عدة حروب على قطاع غزة حتى الآن، أشعر بعجز تام. كيف يمكن للكلمات أن تصف المعاناة التي عاشتها؟ من الصعب عليّ، وأنا بعيدة عن كل ما شهدته يارا، وشهده أهل قطاع غزة، أن أتصور حجم الألم الذي اجتاح حياتهم خلال حرب الإبادة الحالية.
بدأت يارا مسيرتها المهنية بحماس وشغف، بإيمان أن الصحافة هي صوت الحقيقة، صوت الناس، ولكن الحرب الأخيرة على غزة غيرت كل شيء. غطت يارا العدوان على قطاع غزة في عام 2022، وتواجدت في الصفوف الأمامية بكل شجاعة موثقة الدمار والألم حينها. لكنها مثل الكثيرين من الصحافيين/ات ممن يغطون الحروب، لم تجد الوقت المناسب للتعامل مع الضغوطات النفسية الناجمة عن تغطية الحروب، والتي تنتج عنها صدمات نفسية شديدة.
بدأت الحرب الأخيرة على قطاع غزة ويارا في خارج القطاع فلم يصدر عنها سوى الصمت، إذ توقفت عن النشر عبر منصاتها المعتادة، وحسب ما نشرته والدتها، فإن يارا ابتعدت عن كل ما حولها، وترفض إلى حد كبير التواصل مع الآخرين، وقد فقدت ما يقارب 30 كغم من وزنها. لا بد أن صدمة حرب الإبادة الحالية كانت، ولا تزال، فوق استطاعتها.
أمام كل هذا، لا أملك سوى الشعور بالعجز أمام معاناتها، ولا أملك الكلمات المناسبة لوصف الألم النفسي الذي تعشيه!
يارا واحدة من مئات الصحفيين/ات ممن يعيشون الكارثة ذاتها، فما أن تنتهي تغطيهم/ن لويلات الحرب حتى تبدأ الآثار النفسية بالظهور عليهم/ن، خصوصا على أولئك المتواجدين/ات طيلة فترة الحرب في الصفوف الأمامية تاركين/ات منازلهم/ن وعائلاتهم/ن وراءهم/ن لنقل الحدث. وسط مشاهد الحرب والدمار، يبرز التساؤل حول تأثير الضغوط النفسية المتراكمة مع كل خبر وصورة على الصحفيين/ات؟
“قلبي ليس على ما يرام”
على مدى أربعة سنوات، أمضى المصور الصحفي وهاج بني مفلح من قرية بيتا أيامه متنقلاً بين الحواجز العسكرية ومناطق الاشتباك، يسابق الزمن للوصول إلى مكان الحدث ونقل الحقائق. يواجه وهاج يوميا تحديات صعبة، وخاصة في الضفة الغربية حيث يمكن أن يتغير الوضع في لحظة. الحواجز المنتشرة في كل مكان، الاشتباكات التي قد تندلع دون سابق إنذار جعلت الوصول إلى موقع الحدث مغامرة محفوفة بالمخاطر. ورغم كل ذلك، يدرك أن واجبه الصحفي يحتم عليه مواجهة تلك التحديات. مرّ وهاج بتجارب صعبة كان لها أثر نفسي كبير عليه، المشاهد التي رآها والمواقف الإنسانية التي لا يمكن نسيانها، التي حُفِظت في قلبه مثلما حفظتها وسجلتها عدسة الكاميرا، يقول: “في كل مرة نغطي فيها موقفًا مأساويًا مثل التهجير أو الاعتقال، أشعر أن قلبي ليس على ما يرام”.
على الرغم من محاولاته المتكررة للفصل بين عمله وحياته الشخصية، إلا أن الأمر كان يبدو شبه مستحيل. “عندما أرى مشاهد مؤلمة، يكون من الصعب عند العودة إلى البيت التصرف وكأن شيئا لم يحدث”، في العديد من المرات بقيت المشاهد المؤثرة عالقة في ذهنه. في مواجهة كل هذا التوتر، حاول وهاج البحث عن وسائل للتخفيف من الضغوط. يلجأ إلى الرياضة لتصفية ذهنه، ويجد في قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء بعضا من الاتزان. رغم هذه الصعوبات، يبقى الدافع الرئيسي لاستمرار وهاج إيمانه العميق برسالته كصحفي “أنا هنا لأعطي صوتا لمن لا يستطيعون إيصال أصواتهم”.
رسالة إنسانية
على مدى سنوات من العمل الميداني في الصحافة، أصبحت الصحفية راية عروق، من مدينة جنين، صلبة، لا تتأثر بشيء. الاعتداءات المتكررة من جيش الاحتلال والانتهاكات المستمرة بحق الفلسطينيين صقلت صلابتها. هذه الصلابة، التي أصبحت سلاحا لمواجهة الواقع الصعب باتت تشكل تحديا نفسيا لها. حين تضع رأسها على الوسادة في نهاية يوم مرهق، تجد نفسها تحاسب ذاتها على تلك القوة. مشاهد الحرب في غزة، مشاهد الدم والدمار، حفرت في ذاكرتها، ما جعل ما تراه الآن في مخيمات شمال الضفة الغربية يبدو أقل وطأة بالمقارنة.
لكن خلف تلك الصلابة، هناك ضغوطات أخرى ترهقها. الضغط في العمل يطاردها باستمرار، مع المواعيد الصارمة والالتزامات المتواصلة. تجد نفسها أحيانا تنعزل عن العالم تماما، وتلك الفترات قد تمتد لأكثر من شهر، تنفصل عن حياتها اليومية وحتى عن علاقاتها الاجتماعية. من جانب آخر تلك الالتزامات تؤثر على دورها كأم وقدرتها على متابعة تفاصيل حياة ابنها. وبالرغم من كل لحظات اليأس التي تمر بها، تجد نفسها تستيقظ يوميا وكأنها تستمد طاقة جديدة للاستمرار. عملها الصحفي ليس مجرد وظيفة، كما تقول، بل جزء من مقاومتها للاحتلال، وواجب وطني ورسالة إنسانية تدفعها لمواصلة الطريق.
صدمات متراكمة
بالرغم من اختلاف تجارب الصحفيين/ات، إلا أن العامل المشترك بينهم/ن تراكم الصدمات النفسية الناتجة عن المشاهد القاسية التي يغطونها يوميا. فهم/ن يتعرضون لمواقف مأساوية تشمل الاعتقالات، التهجير، والموت، ما يترك أثرا عميقا في نفوسهم/ن. يظهر هذا في صعوبة فصل الحياة المهنية عن الشخصية، والضغوط المهنية المستمرة والمواعيد الصارمة، إلى جانب الموازنة بين الحياة الأسرية والشخصية، تزيد من العزلة وتفقدهم الروتين الطبيعي، كما حدث مع يارا التي انعزلت عن حياتها الاجتماعية، أو وهاج الذي لا يستطيع تجاوز ما يراه.
عندما نحاول فهم ما يواجهه الصحفيون/ات الفلسطينيون/ات، نرى أن الأمر يتجاوز التغطية الإعلامية. مشاهد الدمار والعنف والظلم المتكرر تترك بصمات لا تمحى في أنفسهم/ن. يشكّل التعامل مع هذه الضغوط في ظل غياب الدعم النفسي تحديا كبيرا، حيث لا يتوفر الوقت أو المساحة الكافيين للتعافي. على الرغم من ذلك، يبقى إيمانهم/ن بمسؤوليتهم/ن في نقل الحقيقة وإعطاء صوت لمن لا صوت لهم، وإيمانهم بعملهم بوصفه واجباً وطنياً، دافعهم المشترك للاستمرار.