مقالات

ناجي العلي المنتصر على الغياب والتغييب

 

بقلم الإعلامي: خالد الفقيه

سبعة وثلاثون عاماً إنقضت على عملية الاغتيال التي تعرض لها أشهر فناني الكاريكاتير في العالم ناجي العلي في عاصمة الضباب لندن، في الثاني والعشرين من تموز عام 1987 ولكنه بقي يصارع رصاص كاتم الصوت إلى أن أسلم الروح بعد 38 يوماً دون أن يسلم الراية وما حرض عليه في حياته.

ولد الفنان ناجي سليم حسين العلي في قرية الشجرة بالجليل الأعلى قرب الناصرة في فلسطين عام 1936، ويرتبط اسم القرية بالسيد المسيح عليه السلام الذي تقول بعض الدراسات التاريخية أنه استظل تحت إحدى أشجارها، وهو ما قد يفسر اهتمام الفنان فيما بعد بإظهار آلام السيد المسيح كدلالة على معاناة الشعب الفلسطيني.

تأثر ناجي منذ نعومة أظافره بأصوله الفلاحية حيث نزل مع والده وأسرته إلى الحقل مبكراً، الأمر الذي يفسر فيما بعد حضور الأرض وعشقها في إبداعاته الفنية، وعندما كان في عمر العشر سنين حدثت الحرب المعروفة بالنكبة، وكانت قرية الشجرة إحدى ساحاتها. قتل اليهود وشردوا السكان وهدموا البيوت وأزالوا معالم القرية عن الوجود. استشهد العديد من المدافعين عن الشجرة ومنهم الشاعر الوطني، عبد الرحيم محمود. رغم حداثة سنه عند سقوط فلسطين عام 1948، إلا أنه أكد فيما بعد تأثره بما رسخ في ذهنه من مجازر، ومنها استلهم بعض رسوماته، إذ يقول: “كان عمري عشر سنوات، ومع ذلك أذكر قريتي جيداً، وأتذكر ليس فقط البيوت والأشجار بل الأعشاب والحصى، أما المدافعين عن القرية ملامحهم مازالت في ذاكرتي”.

اتجه ناجي وأسرته بعد حرب عام 1948 إلى جنوب لبنان كما باقي أهل الشجرة والقرى المجاورة، وبقوا في البساتين طيلة صيف ذلك العام على أمل العودة إلى ديارهم. وبعد أن دهم الشتاء جماهير اللاجئين وطال انتظارهم العودة تحت أشجار بنت جبيل اللبنانية التي تعود لأحد أصدقاء والده، قررت العائلة وباقي المهجرين من الفلسطينيين الرحيل مرة أخرى لتحط بهم المسيرة فيما بات يعرف بمخيم عين الحلوة القريب من صيدا.

بدأ اهتمامه بالرسم التعبيري يظهر عليه مبكراً متأثراً بالشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي، الذي كان من مجالسيه في المخيم. “هنا بدأت مواهب الرسم والميل نحو الفن بشكل عام تظهر عند ناجي. لكن طبيعة المدرسة والقائمين عليها، ]مدرسة الرهبان البيض التي انتقل إليها بعد مدرستي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في المخيم ومدرسة اتحاد الكنائس المسيحية[ لم تستطع إشباع رغبات الطفل في زيادة معارفه الفنية أو السياسية، مما دفعه للاستماع للأحاديث التي كان يلقيها الشاعر عبد الكريم الكرمي…، وكانت هذه الأحاديث تتعمق في نفسية الطفل الصغير يوماً بعد يوم، كانت عيناه تنظران إلى داخله عندما يجلس على الأرض ويرسم بحرارة ثم يمسح الرسمة بكف يده”.

كان ناجي كذلك مولعاً بالمسرح فانخرط أثناء وجوده في حركة القوميين العرب بفرقة المسرح التابعة للحركة، لكن هذا النوع من الفن لم يرق له طويلاً فاتجه نحو الكاريكاتير. “لقد تحدد درب الفنان في سلوك هذا الطريق بين جدران السجن. فقد اكتشف أنه يستطيع أن يسخر من جلاده من خلال رسمه على نحو يثير حنقه”. كانت الرسمة الأولى التي وضعت ناجي العلي على سلم الإعلام المكتوب كأحد فناني الكاريكاتير هي تلك التي التقطها الأديب غسان كنفاني وأعاد نشرها عام 1961 في مجلة الحرية التابعة لحركة القوميين العرب والتي كان يرأس تحريرها. وهو ما أكده ناجي في أكثر من حديث صحفي له في وقت لاحق. “وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني،…، إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم شاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة “الحرية“، وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من “الحرية” وفيها رسوماتي…. شجعني هذا كثيراً…. حين كنت صبياً في عين الحلوة، انتظمت في فصل دراسي وكان مدرسي أبو ماهر اليماني…. وعلّمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه. وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا….. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم “ارسم… لكن دائماً لفلسطين”.

حل وترحال

أبقى ناجي على صلاته مع تنظيم حركة القوميين العرب رغم عدم التزامه تنظيمياً في صفوفه. بالإضافة إلى مجلة الحرية التي واظب على الرسم فيها، توجه إلى الكويت للعمل في مجلة الطليعة الأسبوعية التي كانت تتبع فرع التنظيم في الكويت عام 1963.

انشد ناجي حتى العام 1974 ليس فقط للهموم الفلسطينية بل والعالمية، فحيا الثورة الفيتنامية في رسوماته وانتقد الدعم الأمريكي لإسرائيل والعلاقات الإيرانية في عهد الشاه مع تل أبيب. دافع عن الحرية والديمقراطية في الوطن العربي وعن الثورة الجزائرية والتعايش الإسلامي المسيحي العربي متأثراً بذلك من مصغره كابن لقرية مختلطة بين المسلمين والمسيحيين ومن ثم بالإمام موسى الصدر في المدرسة الجعفرية التي علم وعمل فيها لاحقاً.

كانت رسومات ناجي العلي قبل عام 1969 وخطوطه تأخذ عدة أشكال ذات دلالات رمزية واضحة ترتبط بما يريده هو شخصياً، لكن في هذا العام أوجد رمزه الخاص الذي لازمه حتى وفاته والمعروف باسم حنظلة، والذي قدمه لجمهوره بشرح وافٍ على صفحات جريدة السياسة بتاريخ 13/08/1969. في تقديمه للقارئ، لخص ناجي همومه كمواطن عربي ووجد في ولده كما كان يحب أن يسميه إلهامه.

شحذ ناجي ريشته مجدداً مع بدء ملامح عمليات التسوية السياسية بالظهور معلناً رفضه لكل حل لا يرجع فلسطين للفلسطينيين، وأشبع هنري كيسنجر سخرية برسوماته. عاد ناجي إلى بيروت عام 1974 بعدما طلب منه طلال سلمان العودة للعمل معه في جريدة السفير. فوجئ ناجي بتبدل الأحوال في المخيمات فلم تعد كما تركها سابقاً، “فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة، كانت تتوفر له رؤية أوضح سياسياً. يعرف بالتحديد مَن عدوه وصديقه. كان هدفه محدداً فلسطين، كامل التراب الفلسطيني. لما عدت، كان المخيم غابة سلاح، صحيح، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدته أصبح قبائل، وجدت الأنظمة غزته، وعرب النفط غزوه ودولارات النفط لوثت بعض شبابه…. صحيح هناك تفاوت بين الخيانة والتقصير، ولكنّي لا أعفي أحداً من المسؤولية. الأنظمة العربية جنت علينا، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها”.

عايش ناجي العلي بعد عودته من الكويت إلى بيروت الحالة غير المستقرة للوضع السياسي والأمني في لبنان وفي الوطن العربي بعد حرب عام 1973 وما تبعها من قسمة حادة في الحالة العربية.

آثر ناجي العلي البقاء في لبنان متنقلاً بين مخيم عين الحلوة وصيدا وصور والجنوب على ترك بلد يحرقه لهيب القنابل وتعمل فيه آلة الطائفية تقتيلاً وتمزيقاً رغم توافر الظروف له للعودة مع أسرته إلى الخليج للعمل هناك. هاجم ناجي الحرب الأهلية منذ بدايتها ورأى فيها حرباً بالإنابة عن آخرين بغية تصفية عروبة لبنان والثورة الفلسطينية. انبرى ناجي بريشته للدعوة للوحدة بين المسيحيين والمسلمين في مواجهة القوى المتحالفة مع إسرائيل على الساحة اللبنانية، اقترب الخطر منه أكثر بتعرض منزله للقصف عام 1981 دون أن يردعه ذلك عن التوقف “ففي عام 1981 جراء القصف الذي تعرضت له صيدا من قبل جماعة سعد حداد ]مؤسس جيش لبنان الجنوبي المرتبط بإسرائيل[، أصيبت ابنة ناجي “جودي” في قدمها، انتقد ناجي القوى الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كما انتقد أعداءها دون خوف أو وجل مما أكسبه عداء جميع الفرقاء على الساحة اللبنانية ومن يقف وراءهم رافضاً كل التهديدات مؤمناً بما يمليه عليه عقله وتترجمه ريشته إلى فن ناقد ولاذع عبر جريدة السفير التي طور من خلالها فنه وأداءه.

تعرض ناجي بفنه في هذه الفترة إلى ظهور النفط والصراع الأمريكي السوفيتي على تقاسم النفوذ في العالم العربي، رفع ناجي من مستوى فنه لتوظيف النظرة المسيحية الوطنية تجاه القضية الفلسطينية خلال الحرب الأهلية، فمزج آلام المسيح الفلسطيني بالرموز المسيحية الأخرى. تعاطى برسوماته مع غياب الديمقراطية داخل الثورة الفلسطينية وفي العالم العربي.

مكوث ناجي في لبنان لم يدم طويلاً إذ عاد إلى الكويت عام 1976 للعمل مع جريدة السياسة، ومع عودته عام 1978 إلى لبنان لمعاودة العمل مع جريدة السفير رغم الوجود السوري هناك وبقاء الحرب الأهلية على حالها. وتأثر ناجي في لبنان بما يجري على الأرض وحزن حزناً شديداً على المذابح التي كانت تقترف في لبنان. في ذات الوقت كان يشحذ ريشته ويوجهها نحو دعم المقاومة، وكان همه ضرورة التوحد خلف المقاومة.

إمتشق ناجي ريشته ووظف فكره في مساندة المقاومة وحاول كثيراً الدفع في مجهودات المقاومة بمحاكاته لصمود الفيتناميين في مواجهة أمريكا. في عام 1978، إندغم ناجي العلي مع المقاومة التي كانت تتصدى للعملية التي أطلق عليها الاحتلال الإسرائيلي (سلامة إصبع الجليل) في جنوب لبنان والتي هدفت لإبعاد المقاومة عن الجنوب اللبناني. رسم ناجي للشهداء وانتقد القيادات المتخاذلة والقوى الإنعزالية في لبنان التي تحالفت مع إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية واللبنانية. مع استمرار المقاومة، قامت إسرائيل باجتياح واسع للبنان حتى وصلت بيروت بهدف القضاء على الثورة الفلسطينية وذلك عام 1982.

الخروج الأخير من بيروت

أدرك ناجي أن دوره بات يشبه دور المؤذن المطلوب منه تحريض الناس وإشراكهم في تحمل المسؤلية تجاه ما يدور حولهم. أدرك كذلك أن مهمته بالتبشير في الثورة يمكن أن تحدث في أي مكان، وجد ناجي ضالته في صحيفة القبس الكويتية التي كانت ذات ميول ناصرية وقتها.

الرحلة الأخيرة

قبل اغتياله عام 1987، خاض معارك ضارية مع رموز منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها ياسر عرفات ومحمود درويش. كان الأخير قد أدلى بحديث لصحيفة يديعوت أحرنوت العبرية غزل فيه إلى أهمية فتح حوار مع اليسار الإسرائيلي، وهو ما دفع ناجي لمهاجمته ووصفة بالخيبة كما روى ناجي ذلك في حديث صحفي لمجلة الأزمنة بعدها.

الاغتيال الأول

أغتيل ناجي العلي في لندن أثناء توجهه إلى جريدة القبس الدولية وذلك في شارع ايفز EVES بعد أن أوقف سيارته على جانب الشارع. وتفيد العديد من الكتابات والتحقيقات أن شاباً أسمر البشرة اقترب منه بعد ترجله من سيارته وأطلق الرصاص على رأسه قبل أن يلوذ بالفرار من المكان وذلك صبيحة يوم الأربعاء الموافق 22/07/1987. أدخل ناجي العناية المكثفة في أحد المشافي البريطانية وبقي فيه إلى أن وافته المنية يوم 29/08/1987. تم دفنه في الثالث من أيلول من ذات العام في مقبره بروك وود Brook Wood، ووري الثرى في قبر يحمل الرقم 230190. أقفلت السلطات البريطانية ملف التحقيق في ظروف اغتياله. وفقاً لرواية الشرطة البريطانية فإن: ” “الشاب مجهول الهوية” الذي أطلق النار على ناجي العلي قد سار بمحاذاته وأطلق النار عن قرب على وجه ناجي حيث اخترقت الرصاصة صدغه الأيمن وخرجت من الأيسر”.

اغتياله الثاني

كان من بين من خلدوا ذكراه الفنان الرسام و النحات اللبناني شربل فارس الذي صنع له نصباً في الذكرى السنوية الأولى لرحيله بعد عمل استغرق عدة شهور إلا أن التمثال الذي بلغ ارتفاعه 275 سم وعرضه 85 سم تعرض للتخريب والتفجير وإطلاق الرصاص عليه ومن ثم الاختفاء عن المكان الذي وضع فيه، “التمثال من الأمام، يحمل الفنان ]ناجي العلي[ رسومه بيد وتشكل قبضة اليد الثانية بعروقها البارزة رمزاً لحجر الانتفاضة في فلسطين (وكان الفنان الشهيد أول من بشّر بها في رسوماته)”.

رغم تغييبه وملاحقته حياً وشهيداً استمر ناجي خالداً في الذاكره برسوماته التي إتصفت بكونية الموضوع وتوع مواضيعها التي لا تخدم إلا قضيتي المقاومة وفلسطين باعتبار الإولى الطريق الأقصر نحو الثانية رغم التضحيات والكلف التي قد تتطلبها.

ناجي الحضور الذي لا ينقطع

إمتلك ناجي قدرة رادرية راصدة لمحيطه وواقعه ومستشرفه للمستقبل وتجلت بأبها صورها في الأحداث التي تلت علوه إلى السماء شهيداً، فيحسب له نبوءته بالانتفاضة الأولى وبما يسمى بالربيع العربي وتكالب الأعداء بمساعدة أخوة العرق على أقطار عربية بعينها، وبقطار التسوية للقضية الفلسطينية وتكالب العرب على الرضوخ للتطبيع وشروطه الصهيو-أمريكية، وتفكك العالم بمنتظمه السياسي القديم الذي عايشه شرقاً وغرباً، وغير ذلك الكثير من الأحداث التي نجدنا مع وقوعها نعود لنقلب فيما جادت به ريشته لنستحضره ونتداوله.

ومع حلكة وظلام ما أستشرفه بقي مؤمناً برهانه على الرفض القوي المستند لزند المقاومين على طول الوطن العربي وعرضه مبشراً بثورة تفرز الغث من السمين وتلفظ التخاذل والمتآمرين، فكانت فلسطين والمخيم وغزة وناسها وفاطمة وسندريلا مع الفدائي مكتمل الأطراف ورفيقه الذي فقد البعض منها الأكثر حضوراً في زوايا المشهد مع حنظلته المؤذن الشرس في استنهاض الأمة حتى فلسطين بكامل ترابها لموقعها الأصيل بعد اسقاط كل الأكاذيب المؤسسة للصهيونية العالمية.

واليوم وفي حضرة ناجي الناجي من ذل وعار المرحلة نجد أنفسنا أمام الكثير من التساؤولات والتي يقف على رأسها: ماذا لو كان ناجي بيننا اليوم ويشهد المحرقة الممتدة في غزة تأكل أبدان الفلسطينيين وسط حالة صمت عربي يشي بالموافقة والدعم لما يجري فأي إبداع كان سيقدم؟ وأية وصايا كان سيحملها لرسوله حنظلة ليوصلها للصاعدين نحو السماء؟

ماذا كان ليقول وكيف سيعتصر ريشته بين أصابعه ليسيل حبرها الأسود الكاوي على الرقعة البيضاء؟

اقرأ ايضاَ

زر الذهاب إلى الأعلى